فليحذر بعض الخطباء من مسلك (القعديّة)

الحق الواضح

وردت أحاديث كثيرة في شأن الخوارج فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنهم شر قتلة تحت أديم السماء وأنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم أي لا يفقهون معانيه، كما أخبر عليه الصلاة والسلام أنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل ثمود، وأنهم كلاب النار، ولذلك فقد قام الصحابة الكرام رضي الله عنهم بالعمل بمقتضى التوجيهات النبوية فيهم فلما ظهر الخوارج وكفّروا الصحابة الكرام بل شرعوا في قتالهم فقاتلهم الصحابة وتصدوا لهم، وقاتلهم علي رضي الله عنه، وقام عبدالله بن عباس رضي الله عنهما بمناظرتهم وتفنيد شبهاتهم ورجع منهم في تلك المناظرة ألوف ممن أراد الله نجاته وسلامة دينه، وبقي آخرون في تيه الشبهات وظلمات الجهل وفهم آيات القرآن الكريم فهماً منكوساً وفقهها فقهاً معكوساً، فتعدوا على الصحابة وقتلوهم واستباحوا الدماء وقطعوا الطرق وفسروا آيات نزلت في الكافرين فجعلوها في المسلمين وكان منهم عبدالرحمن بن ملجم الذي قتل الخليفة الرابع ليث الحروب أبا السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وتفرقت هذه الفرقة المارقة الخارجة إلى فرق عديدة ذُكرت في كتب الفرق، وقد ذكر عبدالقاهر البغدادي في كتابه (الفَرْقُ بين الفِرَق) عشرين فرقة من فرق الخوارج : المحكمة الأولى الأزارقة والنجدات والصفرية ثم العجاردة المفترقة فرقاً منها الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية والصلتية والاخنسية والشيبية والشيبانية والمعبدية والرشيدية والمكرمية والخمرية والشمراخية والإبراهيمية والوافقة والاباضية منهم افترقت فرقاً معظمها فريقان حفصية وحادثية واليزيدية من الأباضية والميمونية من العجاردة..
قال الله تعالى : (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) .. فإنه لما كانت آراء ومعتقدات الخوارج قائمة على الأهواء، وتفسير النصوص بالأهواء والأمزجة مع قلة الفقه في الدين أو عدمه دون الرجوع للنصوص الأخرى كان من نتائج ذلك تفرقهم لتلك الفرق الكثيرة وهذا مصير من بنوا مبادئهم وعقائدهم على الآراء والأهواء والفلسفات والأفكار، وقد عصم الله أهل السنة والجماعة الذين بنوا أمر الدين على الكتاب والسنة (ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم)..
والذي يجمع الخوارج على كثرة فرقهم هو : تكفير عثمان وعلي وأصحاب الجمل والحكمين، ومن رضي بالتحكيم وصوّب الحكمين أو أحدهما، ووجوب الخروج على السلطان الجائر، وتكفير أصحاب الكبائر، أي التكفير والإخراج من الملة لمن يقع في كبائر الذنوب كالقتل والسرقة والزنا.. وهذه الأخيرة ربما لا تجمع عليها جميع فرق الخوارج فإن فرقة (النجدات) من الخوارج لا يوافقون بقية الخوارج في التكفير بالذنوب الكبائر.
وإن من فرق الخوارج التي لم يسمع بها كثيرون فرقة تعرف بــ “القَعْدِيّة” ، وهم : المحرضون على الخروج على الحكام، وإن لم يخرجوا، وقد سماهم أهل العلم بـ”القعديّة”، فقد عدّد الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي – رحمه الله – الفرق الضالة فقال: (“القعدية”: الذين يزينون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك).
وفي كتابه “تهذيب التهذيب” يعرّف بهذا النوع من الخوارج فيقول:(“القعدية”: والقعد الخوارج كانوا لا يُروْنَ بالحرب بل ينكرون على أمراء الجور حسب الطاقة ويدعون إلى رأيهم ويزينون مع ذلك الخروج ويحسنونه).
فإن الخوارج ليسوا هم من يقاتل الحاكم بالسيف فقط !! فإن “القعدية” فرقة من الخوارج، يزينون الخروج على الحاكم الجائر ويهيجون العامة ويوغرون الصدور عليه.
و”القعدية” غالباً أخطر من الخوارج أنفسهم، إذ أن الكلام وشحن القلوب وإثارة العامة على ولاة الأمر له أبلغ الأثر في النفوس وخاصة إذا خرج من رجل بليغ متكلم يخدع الناس بلسانه وخطابته أوكتابته ويخرج ذلك في قالب النصح.
روى أبو داؤود في مسائل الإمام أحمد- رحمهم الله – عن عبدالله بن محمد الضعيف – رحمه الله – أنه قال: “قُعّدُ الخوارج هم أخبث الخوارج”.
وقد بينت في مقالات سابقة الموقف الشرعي من الحاكم المسلم وناقشت بهذه الصحيفة بعض الكتاب في مسائل الخروج على الحكام والشروط الواردة في ذلك ووجوب السمع والطاعة للحاكم الجائر وسردت جملة من الأحاديث النبوية في وجوب السمع والطاعة للحاكم المسلم ما لم يأمر بمعصية، وبينت شروط الخروج على الحاكم وهذه الشروط أفادها العلماء من التوجيهات النبوية الكريمة والتي جاءت لتكفل وتحقق مقاصد شرعية معلومة، وبالعمل بها تحقن الدماء المعصومة، وتحفظ الأعراض والمقدسات، ويتجنب كثير من الدمار وذهاب الأنفس المتوقع في الخروج، وهذه من أجل مقاصد هذه الشريعة الإسلامية العظيمة، بل هي من مقاصد جميع الشرائع التي شرعها الله لخلقه.
وهذه الشروط هي: أن يُرَى الكفرُ، البواح، الذي فيه من الشرع برهان واضح وحجة، القدرة على تغييره وألا يكون مفسدة تغييره أعظم من مفسدة بقائه، وكما ذكر بعضهم في الشروط البديل الذي هو أفضل .
وإن نصح الحاكم هو من الأمور المهمة والعظيمة وقد جاء في حديث (الدين النصيحة .. لأئمة المسلمين وعامتهم).. وقد ورد حديث يبين الأسلوب الأنفع للنصيحة.
فالنصيحة لها طرقها وأساليبها وللشرع فيها بيان واضح، وفرْقٌ بين النصيحة والتعيير والتهييج.. ولأهمية التفريق بين هذين الأمرين المتضادين فقد ألّف الحافظ ابن رجب كتاباً قيّماً سمّاه (الفرق بين النصيحة والتعيير) .
إن بعض (الخطباء) في طريقة تناوله لبعض القضايا نجده يتناولها بأسلوب يصب في اتجاه الدعوة للخروج على الحاكم.. على طريقة فرقة الخوارج (القَعْديّة).. فالخطابة موجهة لإثارة العامة وتزيين الخروج.. وهذا شيء مشاهد في بعض الخطباء في المساجد في القديم والحديث، ومن بين كتّاب الصحف من ينحى نفس هذا النحو.
إن الشرع الذي حدد لنا كيف نصلي وكيف نصوم وغير ذلك هو نفسه الشرع الذي وضح لنا العلاقة بين الحاكم والمحكوم والراعي والرعية وبين الأساليب الشرعية والنافعة في النصيحة ..
إن بعض الخطباء في بلادنا هاج وماج مع ظهور ما سمي بثورات الربيع العربي، الذي اتضح فيما بعد أنه (الربيع الغربي) !!! بل وافترى بعض أولئك الخطباء (الثوريين) بطعنهم في دعاة أهل السنة الذين أفتوا بعدم الخروج على الحكام، ولزوم الوصايا النبوية بالصبر حتى يستريح البر أو يستراح من الفاجر.. ومرّت الأيام وتبيّن أنهم قد خدعوا وغشوا المسلمين بنفخهم في نيران الفتن.
ويعود بعض الخطباء ليمارس دور الخوارج (القعدية) في التهييج على الحاكم، بينما الواجب عليه أن يسلك الطريق الشرعي في النصيحة للحاكم كما جاءت بذلك النصوص الشرعية وهو المتوافق مع المقاصد الشرعية وهو الأسلوب الأحكم والأعلم والأسلم، وليت هذا النوع من الخطباء قرأ بتأمل سيرة الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ليتضح لهم ما أشكل عليهم، هذا إن لم يكن الهوى قد تحكّم فإن الهوى (يعمي ويصم) والعياذ بالله. أرجو أن المجتمع كما أخذ حذره من الخوارج المقاتلين أن يأخذ حذره من الخوارج (القاعدين)..

RSS
Follow by Email
Share
alsancak escort
kartal escort
Kamagra
Mrcasino