السودان: بروفيسور عارف الركابي يكتب: فيضان ١٩٤٦

روفيسور عارف الركابي

كان فيضان النيل عام ١٩٤٦ من الفيضانات التي سجلت في التاريخ لكثرة ما غمره النيل في تلك السنة من مساكن ومزارع .. وكانت بلدة أهلنا (العفاض) التي تقع شرق النيل في الاتجاه المقابل لمدينة (الدبة) قد غمرت ضفافها تماما وتهدمت بيوت أهلنا وكانوا يسكنون (التحتانية) إذ الحياة ترتبط بماء النيل والزراعة وهي زراعة النخيل والزراعة الموسمية إضافة إلى (سعية) البهائم.
يحدثني والدي رحمه الله أن آثار هذا الفيضان كانت مدمرة لبيوتهم ولزراعتهم وقد كان عمره وقتها أربعة عشر عاماً تقريباً و(العفاض) مجمع قرى تبلغ حوالي عشر ، غالبية أهلها يجمعهم رحم واحد وإن تناثرت مساكنهم في قرى ممتدة على ضفة النيل وكانت قرية والدي تسمى (الكربة) والقرية التي ولدت فيها والدتي رحمها الله تسمى (الحصايا) وبقية القرى هي (أبو سعيد والقلعة وعلمار وبادر نجر وترقسي والنوراب وأب حصي وتمتد صلات أهلها حتى قرية أبكُر عاصمة مملكة الدفار) .. فقد أخبرني رحمه الله تعالى أنه قد ترتب على هذا الفيضان أمران عظيمان :
الأول : القرار النهائي بعدم العودة للسكن على ضفة النيل .. فإن الفيضان المدمر قد يتكرر ويحصل في العام القادم أو الذي يليه ..وعليه فقد بنوا بيوتهم فوق على (قيزان) ورمال (الكربة) وبالفعل حتى يومنا هذا لم يرجع أحد للسكن بجوار النيل في تلك المنطقة وأصبحت (الكربة) قرية قائمة كغيرها من القرى المستقرة في منطقة عالية.
الثاني : كان القرار الصعب بالخروج من البلد والسفر للبحث عن العمل خاصة للشباب .. والاتجاه إلى (الصعيد) وهو الجنوب بالنسبة للشمال حيث يسمى في مقابله الشمال (السافل) وذلك بحسب اتجاه النيل الذي يتجه من صعود في ( الجنوب) إلى نزول في (الشمال).
فكانت مغادرة البلد من الشباب و (الصبيان) الجماعية إلى بقية مدن وقرى وقناطر السودان .. وكان الاتجاه في الغالب على وجه الخصوص إلى (الجزيرة) حيث كان مشروع الجزيرة في قمة عطائه ووفرة فرص العمل فيه .. فخرجوا شبابا وصبيانا في تلك الأعمار حيث كان كثير منهم في سن البلوغ .. أو تزيد أو تنقص ..خرجوا زرافات في رحلات شاقة كان بعضها بالأقدام الأيام الطويلة للوصول إلى كريمة حيث قطارها المشهور.
دخل أهلنا (العفافيض) وغيرهم من أبناء الشمال الذين تركوا بيوتهم وأهلهم بسبب فيضان عام ١٩٤٦ إلى بقية مدن وقرى السودان و (تناثروا) و (تشتتوا) وهم في مقتبل العمر وأتحرج من أنطق بكلمة (وتشردوا).. فرحب بهم أهل تلك الديار وفي المقابل رحب أهلنا بالعمل على اختلاف أنواعه..
كان لابد من هذا السفر والاغتراب داخل السودان رغم المعاناة واستقبال المجهول ؛ فلا مناص ؛ لأن البلد حيث أهلهم وعشيرتهم ومكان ولادتهم لم يعد بها مصادر رزق متاحة خاصة للشباب بعد ذلك الفيضان .. فأيقنوا بذلك وسافروا ليعملوا في عدد من جهات السودان ..
وقد كانت أعمال من اتجه منهم إلى (الجزيرة) هي التجارة في الأسواق الكبيرة في مدنها وقراها الكبيرة وكذلك في (الدكاكين) التي تسمى بـــــ (الكناتين) بالقرى .. واتجه كثيرون للعمل في مشروع الجزيرة في الوظائف الإدارية وفي المحاريت وفي خفر الترع فقد عرفتهم القناطر الممتدةفي كل اتجاهات مشروع الجزيرة..
ولا تعجب عندما تعلم أن الإخوة الأشقاء الأربعة أو الخمسة أهل البيت الواحد يتفرقون في مناطق مختلفة ومتباعدة في وقت كانت المواصلات فيه غير متوفرة.. والسفر بها شاق (لوري) (تيمس) (كومر) (لاندروفر) ومن يسافر بالخمس نجوم وقتها هو من يركب (اللوري) الذي تم تطويره بصندوق (بكنبتين خشبيتين) وبينهما يوضع كل شيء مما يحمل داخل البص من الدواب ومما يوضع من جوالات البذور وغيرها..
عاش (العفافيض) تجارا في الجزيرة فعرفتهم أسواقها الشهيرة كأبي عشر والمحيريبا والمعيلق وأبوقوتة وطابت والمدينة عرب وودرعية وودربيعة والمناقل والعزازي و٢٤ القرشي وأب عون ومدني والحصاحيصا وغيرها ..
وعملوا في إدارة مشروع الجزيرة في بركات موظفين ومهندسين ومحاسبين وفنيين وعمل كثير في الخفارة حيث أسهموا في تنفيذ خطة المشروع الزراعية في سير المياه من الترعة الرئيسة وحتى آخر المشروع .. وحتى لما فتح مشروع المناقل وهو امتداد لمشروع الجزيرة فإنهم قد عملوا فيه حتى وصلوا قبوجة والشوال ..
اتجه والدي للعمل في وابورات الحراثة في ودرعية وأصبح صاحب وابورات يملكها ويعمل عليها ويقوم بصيانتها بنفسه في كل ما يلزم صيانته فيها وبالبيت ورشة متكاملة ، وكذلك كان يدرب كل راغب في العمل على الوابورات في حراثة الأرض وتجهيزها للزراعة ، وانتقل بعد حين إلى العمل في الخرطوم ثم سافر إلى بلاد الحرمين الشريفين فعمل في مدينة جدة أكثر من عشر سنين وعاد قبيل وفاته بسنوات إلى السودان ..
وكان شقيقه الأكبر محمد قد عمل خفيرا في قرية زنقاحة ثم استقر بود رعية ليبقى فيها قرابة أربعين عاما واحدا من أهلها محبوبا بين سكانها يستعان به في إصلاح ذات البين بيته في مدخل القرية مفتوح ليلا ونهارا للزائرين والعابرين من أهل القرى المجاورة .. ورحل في آخر حياته إلى الخرطوم بحري حتى وفاته بالدروشاب.
واتجه شقيقهما (علي) للعمل سائق (بنطون) في منطقة الدويم في النيل الأبيض وفي السوكي في ولاية سنار وقد كان إماما في أحد مساجد السوكي مع عمله وحتى وفاته كان يعيش بتلك المدينة البعيدة عن منطقة استقرار إخوته.
وكان أخوهم الأصغر من الثلاثة وهو الرابع في ترتيبهم (عثمان) قد عمل وهو في سن صغير تاجرا في قرية (النويلة) ثم تاجرا في قرية (أبو دقن) وكلاهما في جنوب الجزيرة ثم انتقل تاجراً إلى (الدمازين) بولاية النيل الأزرق وبعدها انتقل إلى العمل في الخرطوم بحري حتى وفاته وقد كان بيته محل نزول أهله من كافة جهات السودان ..وأما أخوهم الصغير السر فقد عاش بينهم ثم اغترب خارج السودان متنقلا بين عدد من الدول .
وهكذا بقية الأسر عاشت بهذا الحال وبذات الصورة والشكل .. وقد قابلوا جميعاً الصعاب كلها بحسن توكل على الله وتفويض الأمور إليه مع أخذ بالأسباب من كسب للوقت وجدية في العمل وتأقلم مع الظروف مهما كانت .. وانتباه لسنة الله الكونية في (التدرج) مع نظر ايجابي غير متشائم وتحمل للمسؤولية والاجتهادفي القيام بها على أفضل وجه.
عاش (العفافيض) وغيرهم من بقية أهل الشمال من ولايتي الشمالية ونهر النيل وبقية ولايات السودان الأخرى من أهل دار فور وكردفان والنيل الأزرق والنيل الأبيض وغيرها عاشوا جميعاً في (أرض المحنّة) : الجزيرة ، جميعهم عاشوا في القرية الواحدة كالأسرة الواحدة .. كانوا يدا واحدة .. يجتمعون جميعا في الأفراح وفي الأحزان ويساعد بعضهم بعضا بلا تكلف أو تردد ..
نعم عشنا في تلك الديار وفي ود رعية تشكّل المجتمع من الخوالدة وأهم غالبية سكان المنطقة ومن جاءوا من الشمال من الجعليين والدناقلة والمحس والشوايقة والركابية ومن جاءوا من الغرب من الفور والزغاوة والبرقو والتامة والنوبة وشكّل الفلاتة في ودر عية فريقاً كبيرا له حضوره في السوق وفي المطاعم وفي بعض الفصول الدراسية كانوا هم الغالبية في الطلاب كما عاش معهم أهل الشرق من البني عامر والهدندوة وغيرهما وبقية قبائل الوسط كالرفاعيين والبطاحين والكواهلة والعركيين والحسانية والعوامرة والمغاربة ، هؤلاء جميعاً عاشوا كأسرة واحدة.
هذا الحال الجميل كان في وقت تقل فيه دور العلم والتعليم وتشح فيه مدارس الابتدائي والمتوسط والثانوي فضلا عن الجامعات حتى إن بيوت كثير من أهلنا وغيرهم كان يسكن فيها خمسة وسبعة وعشرة طلاب من أبناء القرى لعدم وجود سكن داخلي في المدارس المتوسطة ..
أقول : عجبا أن دور العلم لما كانت بتلك القلة كان الناس يعيشون تلك الحياة الجميلة السعيدة البسيطة غير المتكلفة والتي فيها أمر رعاية الحقوق واضح جدا وكذا بذل المعروف والوفاء وحسن المعشر مع التكاتف والتعاضد، ولكن لما كثرت المدارس والجامعات وانتشرت في عامة القرى والمدن الصغيرة فضلاً عن الكبيرة وأصبح التعليم عن (قرب) وعن (بعد) .. عاد كثير من الناس – للأسف الشديد – القهقرى وقل العمل والإنتاج وكثرت (العطالة) و (الاتكال على الغير) وكثر السماسرة وتجار (السوق الأسود) وبات الناس يبحثون عن القيل والقال وعادت الجاهلية الأولى من دعاوى العنصرية القبيلة وإحياء النعرات بل والاقتتال والاحتراب تحت دعاواها المنتنة ونبشت تلك العادات الذميمة من قبورها وأصبح لها الحضور المشاهد (المخجل) (المدمر).. وإنا لله وإنا إليه راجعون..
هذه خاطرة وردتني فوجدت قلمي يدونها دون تفكير أو تأمل من شدة ما انتابني من مشاعر .. فوجدت الكلمات يجر بعضها بعضا وتتسابق لتخرج من هذا المكنون ، ولم أكن على موعد معها ولكنها حاصرتني فدونتها وأنا في بيت من بيوت الله بعد أداء إحدى فرائض الله ..
تذكرت ما تذكرت وأنا أنظر حزينا إلى آثار فيضان هذا العام ومشاهده المفجعة والمبكية .. وأقول لكل من تضرروا منه : ينبغي الإفادة من الدروس .. فإن على جميع من غمرت بيوتهم مياه الفيضان ممن يسكنون على ضفاف النيل أن تكون لهم عبرة وعظة فيما حصل هذا العام .. كان الله في عونهم وصبرهم وجبر كسرهم وعوضهم خيرا .. ووفقنا جميعاً لنقوم بما يجب تجاههم وأن لا ندخر جهداً أو وقتاً أو مالاً في سبيل مساعدتهم .. وكان الله في عون العبد ما كان في عون أخيه.
ولله الأمر من قبل ومن بعد .. والحمد لله على كل حال ..

RSS
Follow by Email
Share
alsancak escort
kartal escort
Kamagra
Mrcasino