المظهر العام بين الواقع والمأمول – الحلقة الأولى

إذا ذهب الحياء وقع البلاء

من غير المستغرب أن توجد في أي مجتمع أخطاء وانحرافات وممارسات فيها مخالفات، فإن البشر شأنهم النقص وعدم الكمال، وما وُجِد في النفس البشرية من أطماع ونزوات وهوى يدفع بكثير من الناس إلى الوقوع في الأخطاء سواء كانت تلك الأخطاء في حق الله تبارك وتعالى الذي خلق هذا الإنسان ليكون عبدًا له وهيأ له من النعم ما لا يحصيه هذا الإنسان، أو في حق المخلوق الآخر وحق المجتمع والحق العام.

ليس وقوع تلك الأخطاء بمستغرب، ولكن المستغرب والمزعج ـ جدًا ـ هو استمرار تلك الأخطاء وتزايدها وكثرة انتشارها في المجتمع، دون أن يقوم المجتمع بإنكارها ودون أن تسعى الجهات المختلفة التي يهمها الأمر في المجتمع إلى تقليلها ودون أن تبذل ما يجب عليها من توعية الناس بأخطار تلك المخالفات وعقوباتها على الأفراد والمجتمعات وهي سنن ماضيات.

وفي مجتمع بلادنا كثير من الأخطاء، وقد تناولتْ بعض الأقلام في بعض الصحف في الأيام الماضية وفي بعض المنتديات الحديث عما وصل إليه حال كثير من الفتيات وما انتشر من مجاهرتهن بكثير من المخالفات، ويشكر كل من يسعى إلى التصحيح والإنكار بالأساليب الشرعية وبالحكمة وبالتي هي أحسن، ومن المعلوم بداهة أن الجهود في السابق مستمرة ولا تزال إلا أنها تكاد تكون جهودًا فردية!! ولذلك لم يكن لها من الثمار الواضحة في تغيير مظهرنا العام وإيقاف الظواهر الغريبة (الغربية) التي تزداد بمرور الأيام.

ومن باب المشاركة في هذه القضية ـ التي أقضت مضاجع الكثيرين وتفطرت لها قلوب أهل الإيمان، واقشعرت لها جلود أهل الغيرة ـ فإني أكتب هذه الحلقات راجيًا من رب الأرض والسماوات أن يجعلها في ميزان الحسنات وأن يعم بالنفع بها، إنه سميع مجيب.

الواقع المؤلم لحال كثير من الفتيات فيه: التبرج والسفور ولبس الضيق من الثياب، اختلاط بين فتيان وفتيات، وخلوات مريبات تتفطر برؤيتها الأكباد، طربٌ ورقص في ساحات الحفلات، ممارسات مستفزة في كثير من الحدائق والمتنزهات، بل واكتظت بذلك أفنية كثير من المعاهد والجامعات!! رفع للصوت أمام الرجال بل ضحكات مزعجات، وغير ذلك، فرحماك ربي رحماك.

واقع مؤلم يبعث في ذوي الغيرة والإيمان وأهل البصيرة وعلو الشأن الهمة العالية للنصح والبيان أخذًا بالأسباب وإقامة للحجة والبرهان، والهداية بيد مقلب القلوب الملك الرحمن.

ولما كان كثير من هذه الأخطاء والممارسات يرجع إلى قلة الحياء عند كثيرين وكثيرات بل لعدمه لدى البعض!! كان من المناسب أن تكون أولى مقالاتي في هذه السلسلة عن (الحياء)، حيث إن بسبب فقده وقع البلاء!! وعظم الداء!! والأمر لا يخفى لكل ذي عينين.

وَحَقِيقَةُ الحَيَاءِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الحَسَنِ وَتَرْكِ القَبِيحِ، وعرفه بعضهم بقوله: هُوَ انْحِصَارُ النَّفْسِ خَوْفَ إِتْيَانِ القَبَائحِ والحَذَرِ مِنَ الذَّمِّ والسَّبِّ.

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: «الحَيَاءُ (الذَّي هُوَ الاسْتِحْيَاءُ) مُشْتَقٌ مِنَ الحَيَاةِ… وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ القَلبِ، يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الحَيَاءِ، وَقِلَّةُ الحَيَاءِ مِنْ مَوتِ القَلبِ والرُّوحِ، فَكُلَّمَا كَانَ القَلبُ أَحْيَا كَان الحَيَاءُ أَتَمَّ».

وقَالَ في موضع آخر: «وَخُلُقُ الحَيَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الأَخْلاَقِ وَأَجَلِّهَا وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا، بَل هُوَ خَاصَّةُ الإِنْسَانِيَّةِ، فَمَنْ لاَ حَيَاءَ فِيهِ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الإِنْسَانِيَّةِ إِلاَّ اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَصُورَتُهُمَا الظَّاهِرَةُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الخَيْرِ شَيْءٌ، وَلَوْلاَ هَذَا الخُلُقُ لَمْ يُقْرَ الضَّيْفُ، وَلَمْ يُوفَ بِالوَعْدِ، وَلَمْ تُؤَدَّ أَمَانَةٌ، وَلَمْ تُقْضَ لأَحَدٍ حَاجَةٌ، وَلاَ تَحَرَّى الرَّجُلُ الجَمِيلَ فَآثَرَهُ، وَالقَبِيحَ فَتَجَنَّبَهُ، وَلاَ سَتَرَ لَهُ عَوْرَةً، وَلاَ امْتَنَعَ مِنْ فَاحِشَةٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَوْلاَ الحَيَاءُ الَّذِي فِيهِ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنَ الأُمُورِ المُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْعَ لِمَخْلُوقٍ حَقًّا، وَلَمْ يَصِل لَهُ رَحِمًا، وَلاَ بَرَّ لَهُ وَالِدًا؛ فَإِنَّ البَاعِثَ عَلَى هَذِهِ الأَفْعَالِ إِمَّا دِينِيٌّ، وَهُوَ رَجَاءُ عَاقِبَتِهَا الحَمِيدَةِ، وَإِمَّا دُنْيَوِيٌّ عُلوِيٌّ، وَهُوَ حَيَاءُ فَاعِلُهَا مِنَ الخَلقِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْلاَ الحَيَاءُ إِمَّا مِنَ الخَالِقِ أَوْ مِنَ الخَلاَئِقِ لَمْ يَفْعَلهَا صَاحِبُهَا». ثُمَّ قَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ: «إِنَّ لِلإنْسَانِ آمِرَيْنِ وَزَاجِرَيْنِ، آمِرٌ وَزَاجِرٌ مِنْ جِهَةِ الحَيَاءِ، فَإِذَا أَطَاعَهُ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ كُلِّ مَا يَشْتَهِي، وَلَهُ آمِرٌ وَزَاجِرٌ مِنْ جِهَةِ الهَوَى وَالطَّبِيعَةِ، فَمَنْ لَمْ يُطِعْ آمِرَ الحَيَاءِ وَزَاجِرَهُ، أَطَاعَ آمِرَ الهَوَى والشَّهْوَةِ وَلاَبُدّ».

وقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة في بيان أهمية الحياء والحث عليه، والتحذير من فقده ومن ذلك:

قال الله تعالى في قصة موسى ÷: ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ [القصص:25].

وقد أثنى الله تعالى على هذه المرأة بحيائها، وهو الذي ينبغي أن تكون عليه من تخشى ربها وتخافه.

وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا الشأن منها:

r عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ (وَهُوَ البَدْرِيُّ) ت قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ غ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» [رواه البخاري].

وللحديث تفسيران: أَحَدُهُمَا ظَاهِرٌ وَهُوَ المَشْهُورُ: أَيْ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ مِنَ العَيْبِ وَلَمْ تَخْشَ العَارَ مِمَّا تَفْعَلُهُ فَافْعَل مَا تُحَدِّثُكَ بِهِ نَفْسُكَ مِنْ أَغْرَاضِهَا حَسَنًا كَان أَوْ قَبيحًا، وَلَفْظُهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ تَوْبِيخٌ وَتَهَدِيدٌ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الذَّي يَرْدَعُ الإنْسَانَ عَنْ مُوَاقَعَةِ السُّوءِ هُوَ الحَيَاءُ، فَإِذَا انْخَلَعَ مِنْهُ كَانَ كَالمَأْمُور بِارْتِكَابِ كُلِّ ضَلالَةٍ، وَتَعَاطِي كُلِّ سَيِّئَةٍ. وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ الأَمْرُ عَلَى بَابِهِ، وَيَكُونُ المَعْنَى: إِذَا كُنْتَ في فِعْلِكَ آمِنًا أَنْ تَسْتَحْيِيَ مِنْهُ لِجَرْيِكَ فِيهِ عَلَى سَنَنِ الصَّوَابِ، وَلَيْسَ مِنَ الأَفْعَالِ الَّتِي يُسْتَحْيَا مِنْهَا، فَاصْنَعْ مِنْهَا مَا شِئْتَ.

r عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ت قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ غ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» [رواه البخاري ومسلم]. فإن الحياء من الإيمان، فكل من يحرص على إيمانه وسلامته فإنه يجتهد في أن يحفظ حياءه.

r وعَنْ عَبْد ِاللهِ بْنِ عُمَرَ ب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ غ: «الحَيَاءُ وَالإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآخَرُ» [رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورجح العلامة الألباني وقفه على ابن عمر ب].

r وعنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ب قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ غ: «الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» [رواه البخاري ومسلم].

فحريٌ بكل من أراد ـ بصدق ـ لنفسه الخير في الدنيا والآخرة أن يستقيم على الحياء.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ: «مِنْ عُقُوبَاتِ المَعَاصِي ذَهَابُ الحَيَاءِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ حَيَاةِ القَلبِ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ وَذَهَابُهُ ذَهَابُ الخَيْرِ أَجْمَعِهِ فَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ». وَالمَقْصوُدُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُضْعِفُ الحَيَاءَ مِنَ العَبْدِ، حَتَّى رُبَّمَا انْسَلَخَ مِنْهُ بِالكُلِّيَّةِ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا لاَ يَتَأَثَّرُ بِعِلمِ النَّاسِ بِسُوءِ حَالِهِ، وَلاَ بِاطِّلاَعِهِمْ عَلَيْهِ، بَل كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ حَالِهِ وَقُبْحِ مَا يَفْعَلُ، والحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ انْسِلاَخُهُ مِنَ الحَيَاءِ، وَإِذَا وَصَلَ العَبْدُ إِلَى هَذِهِ الحَالِ لَمْ يَبْقَ فِي صَلاَحِهِ مَطْمَعٌ».

r وعَنْ أَنَسٍ ت قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ غ: «مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ شَانَهُ، وَلاَ كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ» [رواه الترمذي وابن ماجة بسند حسن].

r وعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ ب قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ غ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ الله غ: «دَعْهُ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ» [رواه البخاري ومسلم].

ولذلك فقد حرص الصحابة ي ومن سار على دربهم على النصح للأمة بالعناية والاهتمام بالحياء لأنه يبعث على فعل الطاعات والمأمورات ويبعد به المسلم عن الوقوع في المعاصي والمهلكات.

  • قَالَ عُمَرُ ت: «مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلبُهُ».
  • وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ت: «مَنْ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ النَّاسِ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ».
  • وقَالَ إِيَاسُ بْنُ قُرَّةَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ فَذُكِرَ عِنْدَهُ الحَيَاءُ، فَقَالُوا: «الحَيَاءُ مِنَ الدِّينِ». فَقَالَ عُمَرُ: «بَل هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ».
  • قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: «خَمْسٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الشِّقْوَةِ: القَسْوَةُ فِي القَلبِ، وَجُمُودُ العَيْنِ، وَقِلَّةُ الحَيَاءِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَطُولُ الأَمَلِ».
إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي
فَلاَ وَاللهِ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ
يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍِ
 
………… وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
وَلاَ الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ
وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
 

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ:

حَيَائِي حَافِظٌ لِي مَاءَ وَجْهِي
وَلَوْ أَنِّي سَمَحْتُ بِبَذْلِ وَجْهِي
 
…. وَرِفْقِي فِي مُكَالَمَتِي رَفِيقِي
لَكُنْتُ إِلَى الغِنَى سَهْلَ الطَّرِيقِ
 

والحَيَاءُ قِسْمَانِ: غَرِيزِيٌّ، وَمُكْتَسَبٌ. وَالحَيَاءُ المُكْتَسَبُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ مِنَ الإِيمَانِ، وَهُوَ المُكَلَّفُ بِهِ دُونَ الغَرِيزِيِّ، وَقَدْ يَنْطَبِعُ الشَّخْصُ بِالمُكْتَسَبِ حَتَّى يَصِيرَ كَالغَرِيزِيِّ.

وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ غ قَدْ جُمِعَ لَهُ النَّوْعَانِ، فَكَانَ غ فِي الغَرِيزِيِّ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ فِي المُكْتَسَبِ فِي الذِّرْوَةِ العُليَا.

إن ما تضمنته هذه النصوص العظيمة هو (المأمول)، إذا أراد المجتمع أن يعيش حياة طيبة في الدنيا والآخرة فعليه أن يستجيب لهذه التوجيهات الكريمات، ليقف كل فرد من أفراد المجتمع وقفة صادقة مع نفسه ويزن نفسه وحاله من التزامه بخلق الحياء.

ونأمل أن تقوم وسائل الإعلام المختلفة بالدور الواجب عليها وأن تساعد في ذلك، وليتعاون جميع أفراد المجتمع من جهات رسمية ودعاة ومعلمين ومعلمات في ذلك فإنه من البر والتقوى وبذلك يسعد الجميع، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

ونواصل بتوفيق الله تعالى،،

* * *

الحلقة الثانية

الغيرة على الأعراض من لوازم الدين والمروءة والرجولة

في الحلقة الأولى من هذه الحلقات تحدثت عن واقع المظهر العام، وما آل إليه الحال لدى كثير من الفتيات في لباسهن واختلاطهن بالرجال وظهور كثير من التصرفات والممارسات الخاطئة من كثير من الفتيان والفتيات، وبينت أن الواجب أن تتكاتف الجهود على (كل) المستويات للحد من هذه الظواهر ومن انتشارها، وكان موضوع الحلقة عن (الحياء)، وذلك لأن فقد الحياء هو من أهم أسباب ظهور تلك الممارسات.

وفي هذه الحلقة أتطرق لجانب مهم أيضًا في معالجة هذه الظواهر، وهو: (الغيرة على الأعراض)، ولا يختلف اثنان أن فقد الغيرة لدى كثير من أولياء أمور هؤلاء الفتيات هو من أبرز الأسباب لظهور تلك التصرفات والممارسات.

فهل يمكن أن نصدق أن ولي أمر الفتاة التي تخرج بلبس ضيق يصف تفاصيل جسدها وهو يرى ذلك، ويعلم أن المئات بل الآلاف من الرجال سينظرون إليها، هل يمكن أن نصدق أنه من أهل الغيرة؟!

وهل يمكن أن نصف رجلًا بأنه من أهل الغيرة وهو يسمح لابنته أو زوجته أو أخته برحلات أو حفلات بها خلوات ويعج بها الرقص والطرب والمجون بين الفتيان والفتيات ؟!

لقد كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم، وعنوان عرضهم، ولذلك فقد تفننوا في حمايتها والمحافظة عليها، والدفاع عنها، حتى يظل شرفهم سليمًا من الدنس، ويبقى عرضهم بعيدًا من أن ُيمس. ولم يكن شيء يثير القوم كالاعتداء على نسائهم أو المساس بهنّ، ولذلك كانوا يتجشمون في الدفاع عنهنّ كل صعب، لقد كانت الغيرة تولد مع القوم وكأنهم رضعوها فعلًا مع ألبان الأمهات. وفي بيئة العرب التي قامت فيها الأخلاق على الإباء والاعتزاز بالشرف كان لابد للرجال والنساء من العفة ومن التعفف، لأن العدوان على العرض يجر الويلات والحروب، وكان لابد من الغيرة على العرض حتى لا يخدش. والعفة شرط من شروط السيادة فهي كالشجاعة والكرم.

 وقد قيل: «كل أمة وُضعت الغيرة في رجالها، وُضعت الصيانة في نسائها». وقد وصل أهل الجاهلية في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يأدون بناتهم مخافة لحوق العار بهم من أجلهنّ. وأول قبيلة وأدت من العرب قبيلة ربيعة، وذلك أنهم أُغِيرَ عليهم فنهبت بنت لأمير لهم، فاستردها بعد الصلح، وخُيّرَت على رضا منها بين أبيها ومن هي عنده، فاختارت من هي عنده، فغضب والدها وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرةً منهم، وشاع الوأد في العرب بعد ذلك. حتى جاء الإسلام وحرمه ﴿ﭭ ﭮ ﭯ﴾ [التكوير:8]. كان هذا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام حمد الغيرة، وشجع المسلمين عليها، ذلك أنها إذا تمكنت في النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ حميةً ودفاعًا عن الأعراض. إن كل امرئٍ عاقلٍ، بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونًا لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون. إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة يقدم ثروته ليسد أفواهًا تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضًا.بل لا يقف الحد عند هذا فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته، ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يُرجم بشتيمة تُلوّث كرامته. يهون على الكرام أن تصان الأجسام لتسلم الأعراض. وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين قال نبينا غ: «من مات دون عرضه فهو شهيد». بصيانة العرض يتجلى صفاء الدين وجمال الإنسانية، وبتدنسه ينـزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية.

يقول ابن القيم رحمه الله: «إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كله».

ولقد كان أصحاب رسول الله غ من أشد الناس غيرة على أعراضهم، لقد قال عليه الصلاة والسلام يومًا لأصحابه: «إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يُريبُه أَشْهَدَ أربعًا»، فقام سعد بن معاذ متأثرًا فقال يا رسول الله: أأدخل على أهلي فأجد ما يُريبُني انتظر حتى أُشهد أربعًا؟ لا والذي بعثك بالحق!! إن رأيت ما يُريبُني في أهلي لأطيحنَّ بالرأس عن الجسد ولأضربنَّ بالسيف وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء؟ فقال غ: «أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني»، ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. والحديث أصله في الصحيحين. من حُرم الغيرة حرم طُهر الحياة، ومن حرم طُهر الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام. ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء. فهذا هو الذي كانت عليه الأمة في مجدها الزاهر، وهو (المأمول) من المسلمين حتى يعودوا للدنيا سادة وأكابر!! ولكن الواقع الأليم يناقض ذلك في بُعْدٍ ظاهر، فشوارع مكتظة بمن لبسن ملابس بعضها لا يجوز لبسه إلا للزوج فقط! وبعض تلك الملابس لا يجوز لبسه أمام المحارم من الآباء والإخوة!! اختلاط وخلوات، إركاب في سيارات أمام الملأ!! في مظاهر يذبح فيها الحياء، فمن هم آباء وأولياء أمور تلكم الفتيات؟!! وأين هم؟!

بل إن الأدهى والأمر أنك ترى مع تلك المرأة المتبرجة وهي تلبس ذاك اللبس أخاها أو أباها أو زوجها وهو يمشي معها ويضاحكها على مرأى من الناس وهو مع ذلك لا يستحي من نفسه ولا يخجل من مشاهدة الناس له بل ولا يغار عليها، وقد خرجت سافرة متبرجة في أبهى زينة قد عصت الله ورسوله، ترمقها أعين الذئاب الجائعة وهو يعرضها بهذه الهيئة المبتذلة الخارجة عن الستر والحياء والعفة وكأنه لم يصنع شيئا بدعوى التقدم والحضارة!

لقد قال العالم القحطاني الأندلسي قديمًا:

إن الرجال الناظرين إلى النسـاء

 

 
  مثل الكـلاب تطـوف باللحـمان

 

إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها

 

 
  أُكِـلَت بـلا عِـوَض ولا أثـمان

 

فيا صاحب الغيرة: كم للفضيلة من حصن امتنع به أولاد النخوة فكانوا بذلك محسنين، وكم للرذيلة من صرعى أوردتهم المهالك فكانوا هم الخاسرين.

في ظلال الفضيلة عفة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذلة وهوان، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة، وإذا ضعف القوام فسد الأقوام!! وإذا فسد الأقوام خسروا الفضيلة وفقدوا العفة وتاجروا بالأعراض وأصبحوا كالمياه في المفازات يلغ فيها كل كلب ويكدر ماءها كل وارد.

وقد وردت أحاديث في ذم من فقدت عنده الغيرة، فعن عبد الله بن عمر ب قال: قال رسول الله غ: «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق بوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث» [رواه الإمام أحمد في المسند وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع].

وجاء تفسير الديوث في رواية لأحمد : «الذي يقر في أهله الخبث»، وفي لغة العرب الديوث: «من فقد الغيرة».

وفي هذا وعيد شديد ولو عقله كثير من أولياء أمور من ظهر فسادهن من الفتيات ربما لكان موقفهم غير ما هم عليه!!

إن (الجهل) بعظم المسؤولية التي سيسأل عنها كل رب أسرة هو من أبرز أسباب انتشار ما نحن بصدد مناقشته في هذه الحلقات، ويضاف إلى تلك الأسباب (الفهم المنكوس) و(الفقه المعكوس) الذي رسخ في أذهان البعض من أن هذا العري وهذا الاختلاط وهذه الممارسات هي من لوازم المدنية والحضارة ومن مقتضيات الألفية الثالثة!! فتبًا لها من عقول وما أسوأها من أفهام!! ومن تلك الأسباب ما انتشر وينتشر من أغان ساقطة، وأفلام آثمة، وسهرات فاضحة، وقصص داعرة، وملابس خالعة، وعبارات مثيرة، وحركات فاجرة، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد في صور وأوضاع يندى لها الجبين مع قلة من ينكرون تلك المنكرات العظيمة، والتي لها التأثير السريع لدى أصحاب الفطر السليمة!! ومعلوم حب التقليد لدى كثير من الفتيات وركضهن وراء ما يرين من الموضة والجديد، فيصبح الأمر عاديًا لدى كثير من الأولياء بسبب الكثرة والانتشار.

فماذا ينتظر آباء وأولياء أمور هؤلاء الفتيات؟! أليس في القصص التي تحكى صباح مساء عبرة لهم؟! وشعبنا يجيد تكرار تلك القصص في المجالس بأنواعها!! ألا يعلمون أنهم بتركهم الحبل على الغارب لبناتهم أنهم قد أعانوهن على الوقوع في الفواحش؟! ألم يكن من نتائج هذه الفوضى ما عرف باسم الزواج العرفي؟! وهو زنا صريح؟!

ألم يكن من نتائج هذا الواقع المؤلم (تزايد أعداد اللقطاء)؟! وهل دار المايقوما ـ وهي وصمة عار في جبين هذا المجتمع ـ من ثمار الفضيلة أم الفاحشة والرذيلة؟!

ألا يعلم كثير من أولياء أمور هؤلاء الفتيات أن أسرًا بأكملها عاشت سنوات بل بقية حياتها كلها في ذل وهوان وقد طأطأت رؤوسها وغابت عن المجتمع بسبب فضيحة وعار تسببت لهم فيه احدى بناتهم؟!

القردة تغار!!

ألا يستحي الإنسان أن يكون القرد أغير منه؟! نعم القردة عندها غيرة على إناثها، ففي صحيح البخاري عن عمر بن ميمون قال: «رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم». قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح: «وقد ساق الإسماعيلي هذه القصة من وجه آخر عن عمر بن ميمون قال: كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف ـ أي مكان مرتفع ـ فجاء قرْد مع قرْدة فتوسد يدها، فجاء قرد أصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلًا رفيقًا وتبعته، فوقع عليها وأنا انظر ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق فأستيقظ فزعًا، فشمها فصاح، فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويؤمئ إليها بيده، فذهب القرود يمنة ويسرة، فجاءوا بذلك القرد أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم». وقال رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: «وفيه ـ أي القرد ـ من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته».

وإن من المؤسف جدًا أن ينعكس الأمر لدى كثيرين، ويصبح من يغار على عرضه هو (المخطئ) إذ يُتْهَم بأنه يسيء الظن ويشك في الناس!! وأن البراءة تقتضي ترك الناس على ما ألفوه في مجتمعاتهم!! وما أشبه ذلك، ومثل هذا الهراء في ظني لا يصدر إلا من أحد شخصين: إما أن يكون (جاهلاً) أو (مُلَبِّسًا) يريد نشر الفاحشة والفساد، وأقول لمثل هؤلاء: إن النبي غ قال للصحابة الكرام وهم أطهر وأنقى الخلق بعد الأنبياء قال لهم: «إياكم والدخول على النساء» فقال رجل: أرأيت الحمو؟ ـ وهو قريب الزوج من غير محارم المرأة ـ فقال غ: «الحمو الموت». وهو الذي قد قال غ: «ما خلا رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما»، وهو غ الذي منع سفر المرأة بغير محرم، وهو الذي منع اختلاط النساء بالرجال، بتشريع يبقى إلى أن تقوم الساعة رغم أنف هذا الجاهل أو المعاند.

والذي يزداد به العجب من هؤلاء (المستغربين) أنهم وإن جهلوا هذه النصوص وهذا التشريع فهل يجهلون أيضًا الواقع الأليم وثمار هذا التبرج والسفور والفساد العريض؟!

﴿ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [الحجرات:10]، هكذا يوجه القرآن و«المسلم أخو المسلم» كما أوصى المصطفى غ، وهذا يوجب أن ينظر كل مسلم لعرض أخيه المسلم وكأنه عرضه هو، وهذا والله مما يجب أن يجتهد المجتمع في بلوغه، فإذا رأى الرجل فتاة تسيء بتصرفاتها فعليه أن ينصحها بالأسلوب المناسب ويشعرها أنها كابنته أو أخته، وهكذا الأخوات اللائي هن في عافية وستر وعفاف عليهن أن يكثرن من نصح من يرين من أخواتهن من أخطاء في لبس أو ممارسات، وبذلك يتعافى المجتمع ـ بإذن الله ـ ونعيش في أمن واستقرار ورخاء ونسلم من اللعنة التي أصابت بني إسرائيل بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

اللهم وفق المسلمين لأن يعوا مسؤولياتهم، ويقوموا بواجباتهم، ويخشوا وقوفهم بين يديك، واهدهم سبل السلام، ووفق فتياتهم للحشمة والحياء والعفة والحجاب، إنك سميع قريب مجيب.

RSS
Follow by Email
Share
alsancak escort
kartal escort
Kamagra
Mrcasino